سُئِلَ الشَّيْخُ الْعَالِمُ أَحْمَدَ حَمَّانِي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
* كَثِيرٌ مِنَ الْإِخْوَانِ، يَحْمِلُونَ مَعَهُمُ «السُّبْحَةَ»، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَلِّقُهَا فِي رَقَبَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي بِهَا -أَوْ يُؤْتَى لَهُ بِهَا- مِنَ الْحَجِّ لِيُسَبِّحَ بِهَا، وَهُنَاكَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ «الشَّوَاهِدَ» الْمَوْجُودَةَ فِيهَا بِمَثَابَةِ الصَّلِيبِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى التَّثْلِيثِ، فَمَا قَوْلُكُمْ؟
فَأَجَابَ:
تَسْبِيحُ اللهِ -ومَعْنَى ذلك: تَنزيهُه عمَّا لا يلِيقُ بِه مِن أَقْوالِ الظَّالِمينَ- مِن أَقْوَى العباداتِ للهِ الواردِ ذِكْرُها في القُرْآن والسُّنَّةِ القوليَّة والعملِيَّةِ والإِقْرَارِيَّة، وفي كلِّ شَيْءٍ ممَّا نصبَهُ مِن خلقِهِ لخَلْقِهِ شهادة بِتَنْزِيههِ، قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الْإِسْرَاءُ:44].
وألفاظُ التَّسْبِيحِ كثيرةٌ، منها: أَن يقولَ الْقَائلُ: «سُبْحَانَ اللهِ» يُكرِّرُها بِلِسَانِهِ، يَشْغَلُ بِها فِكْرَهُ، ويَمْلَأُ قَلْبَهُ، ومنهَا: الْكَلِمَتَانِ الْخَفيفَتانِ علَى اللِّسَانِ، الثَّقِيلَتانِ فِي الْمِيزَانِ، الْحَبِيبَتَانِ إلى الرَّحْمَنِ: «سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ»، ومنها: أَنْ يَجْمَعَ إلى التَّسْبِيحِ: التَّحْمِيدَ والتَّهْلِيلَ والتَّكْبِيرَ، فَيَقُولُ: «سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ»، وهذِهِ التَّسْبِيحةُ التِي تقَعُ دُبُرَ كُلِّ صلاةٍ، رواها مُسْلِمٌ وغَيْرُهُ: «تُسَبِّحُونَ، وَتَحْمَدُونَ، وَتُكَبِّرُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ»، فَذَلِكَ تِسْعَةٌ وتِسْعُونَ، تُخْتَمُ بِقَوْلِ الْمُصَلِّي: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»، وهذِه الكلِمَةُ التِي يَخْتِمُ بها تَسْبِيحَهُ ذاكَ؛ هي أفْضَلُ ما قالَهُ الأَنْبِيَاءُ، قال عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «أَفْضَلُ مَا قُلْتُهُ أَنَا وَالنَّبِيئُونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ».
ولعلَّ الحديثَ الوَاردَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وغيرِهِ مِن التَّسْبِيحِ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ ثلاثًا وثلاثينَ هو الأصلُ في اتِّخاذِ ما أَشَرْتُمْ إليه فِي السُّؤَالِ مِنْ «سُبَحٍ» خاصَّةٍ يَحْسِبُون بها التَّسْبِيحاتِ والتَّحْميدَاتِ والتَّكْبِيراتِ متَى يَكْمُلُ الْعَدَدُ 99.
والْعَبْدُ غَنِيٌّ عن عدِّ حَسَناتِهِ، بل هُو فِي حاجَةٍ إِلَى عدِّ سَيِّئَاتِه؛ لِيَتَذَكَّرها، فيَسْتَغْفِرُ اللهَ منها، وما أتَاه مِن حَسَناتٍ معدُودٌ مكتُوبٌ محفُوظٌ، لا يُبْخَسُ شَعِيرَة، فما حاجتُهُ إلى عدِّهِ؟ وما أَتاهُ مِن سَيِّئَاتِ يُكْتَبُ عَلَيْهِ؛ فإِنْ ذَكَرَهُ فَاسْتَغْفَرَ منه مُحِيَتِ السَّيِّئَةُ وكُتِبَت حَسَنةً، فعدُّ السَّيِّئَاتِ أَجْدَى علَى الْمُؤْمِنِ مِن عدِّ الْحَسَناتِ.
أمَّا تَقْسِيمُ «السُّبْحَةِ» إلَى ثَلاثَةِ أَقْسَامٍ، كُلُّ قِسْمٍ فِيه ثلاثَةٌ وثَلاثُون يُوضَعُ بِعدِّهِ شَاهدٌ، فلعلَّ ما ذَكرَناهُ هُو الْأَصْلُ فِيهِ، ولا يُقْصَدُ بهذَا التَّثْلِيثُ؛ فإنَّ التَّثْلِيثَ دِينُ النَّصَارَى لا دِينُ الْمُسْلِمِين، فمَا صَادفَ الْبَاطلَ مِن دِين النَّصَارَى؛ فالْأَفْضَلُ: تَرْكُهُ، والْمُسْلِمُونَ لا يَخْطُرُ بِبَالِهم باطِلُ النَّصَارَى.
والسُّبْحَةُ -اليَوْمَ- موجُودةٌ فِي كُلِّ أنحَاءِ الْعالَمِ الْإِسْلَامِيِّ، وقَد أعانَ علَى انتِشَارِها الطُّرُقُ الصُّوفِيَّةُ التِي اخترعَ لِكُلِّ شَيْخُها أنواعًا خاصَّةً مِن الذِّكْرِ، وعدَدًا [خاصًّا] منه، يأتِيه الْمُرِيدُ وزعمَ لهم أنَّهُ يُرِيدُ أن ينَالَ كَذَا وكَذَا بهِ. وهَذِه الْأَذْكارُ منها الْمَقْبُولُ وهو ما ورَدَ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ومنها الْمَرْدُودُ؛ وهو الْمُبْتَدَعُ، ولاسِيَّما إِذَا صَاحَبَتْهُ ادِّعَاءَاتٌ بَاطلَةٌ؛ فإنَّ اللهَ لا يُعْبَدُ إِلَّا بما شَرَعَ وقَدْ أَنْزلَهُ فِي كتابِهِ، وبلَّغَهُ رَسُولُهُ [صلى الله عليه وسلم]، فإن وَصَلَ إِلَيْنَا بِسَندٍ مَقْبُولٍ قَبِلْنَاهُ، وإِلَّا فهُوَ ردٌّ علَى صَاحِبِهِ، ولَمَّا نزلَ قَوْلُهُ تعالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الْأَحْزَابُ:56]، سَألَهُ أَصْحَابُهُ -وهُمْ أَرْبَابُ الْفَصَاحَةِ والْبَلاغَةِ- كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فعلَّمهُم الصَّلاةَ الْإِبْرَاهِيمِيَّةَ.
فَمَنِ اخترَعَ صَلاةً مِن عندِهِ لأتبَاعهِ، ثُمَّ زعمَ لهم أنَّها أَفْضَلُ مِن الصَّلاةِ الْإِبْرَاهِيمِيَّةِ؛ فَقَد كَذَبَ إِنْ صَحَّ ما نُسِبَ إِلَيْهِ، وقَدْ كفَرَ إِنْ زعمَ لهُم أنَّها أَفْضَلُ مِن الذِّكْرِ بِالْقُرْآنِ.
تُوجَدُ أَسْوَاقٌ «لِلسُّبَحِ» حتَّى فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وعلَى بُعْدِ أَمْتارٍ مِن الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ والْمَدَنِيِّ، ومنها تُحْمَلُ أطْنانٌ إلى أطرافِ الْعالَمِ الْإِسْلَامِيِّ، ولا برَكةَ فِي هَذِهِ السُّبَحِ نَفْسِها؛ لأنَّ أَغْلَبَها مَصْنوعٌ فِي بلادِ الْكُفَّارِ، ثُمَّ حُمِلَ إلى الْحَرَمِ لِيُبَاعَ فِيهِ، فأَيُّ بَركةٍ فِيهِ؟!
ومِنَ الْأَقْوَامِ مَن يَحْمِلُ «السُّبْحَةَ» فِي يَدِهِ لِمُجَرَّدِ الزِّينةِ، وقَدْ لا يَخْطُرُ بِبَالِهِ أَنْ يَذْكُرَ بِهَا اللهَ، وشَاعَ هَذَا فِي «بَشَوَاتِ» الشَّرْقِ وَ«بَكَوَاتِهَا»، وقلَّدَهُم غَيْرُهم. وفِي بلادِنَا شَاعَت «السُّبْحَةُ» فِي الرَّقَبَةِ يَضَعُها كِبَارُ الْقَوْمِ و«الْإِخْوَانُ» لِتَكُون لهُم شَرَكًا لِصَيْدِ ذَوِي الْغُفْلَانِ، وقَد مرَّ علَيْنَا عَهْدٌ كَانت فِي اللِّحَى الطَّوِيلَةِ، والسُّبْحَةِ الْغَلِيظَةِ، والْعِمامةِ الْكَبِيرَةِ هِيَ السِّمَاتُ الْخاصَّةُ لِلْفِخَاخِ الْمُحْكَمَةِ.
فإِذَا كان ولابُدَّ مِنِ اتِّخاذِ «سُبْحَةٍ»؛ فَلْتَكُنْ مَكْتُومةً عندَ صَاحِبِهَا، [يَسْتَعْمِلُها] عندَ الْحَاجَةِ، ويَحْرِصُ على إِخْفَائِها حتَّى يتَّقِيَ التَّظَاهُرَ والْمُرَاءَات.
والْأَفْضَلُ: أَنْ يَجْتَنِبَهَا؛ فَما لَمْ يَفْعَلْهُ السَّلَفُ، لا خَيْرَ فِيهِ، ولْيَسْتَعْمِلْ أَصَابِعَهُ فِي الْعَدِّ، وهي سُبْحةٌ مِن اللهِ لاصِقَةٌ فِيهِ.
يُنظر: فتاوى الشيخ أحمد حماني، (ج3-ص332-334)
* تَنْبِيهٌ: أَرَدْتُ بَيَانَ فَتْوَى الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ فِي السُّبْحَةِ، فَأَرْجُو أَنْ لَا يَخْرُجَ الْمَوْضُوعُ عَنْ هَدَفِهِ إِلَى مُناقَشَةِ الْمَسْأَلَةِ.