الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
لغــــــة القرآن
بقلم الدكتور محمود أحمد الزين
الحمد لله الذي أكرمنا بأفضل كتب رب العالمين القرآن المنزل بلسان عربي مبين ، ويسره للقارئين والمتعلمين ، وحفظه ذكرى للذاكرين .والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفصح الأنبياء والمرسلين الذي كانت رسالته القرآن ، وميراثه القرآن ، ووصيته القرآن ، القائل : خيركم من تعلم القرآن وعلمه وعلى آله وصحبه حملة القرآن ومبلغيه إلى العالمين .
ولاسبيل إلى الأخذ بهذه الوصية إلا التمسك بهذا الكتاب العظيم تمسك القارئ المتدبر لاتمسك القارئ الذي يتلوه فمه ولسانه ، ويغفل عنه عقله وجنانه .
أول وسيلة لفهم القرآن :
وإن أول وسائل التدبر معرفة لغة القرآن الكريم اللغة العربية ، وقد بين لنا ذلك ربنا سبحانه وتعالى فقال : ( إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) ، أي أنزلناه بلغتكم لكي تعلموا معانيه وتفهموا مافيه .
ومعنى ذلك أننا إذا لم نتعلم لغة القرآن لايمكننا أن نتعقل معاني القرآن وأن نتدبر عبر القرآن ووصاياه وأحكامه التي كنا حين عملنا بها أفضل الأمم حالاً ، وأعظم الأمم قوة وسلطاناً ، وصرنا حين أهملناها وتقاعسنا عنها من آخر الأمم حالاً وأشدها ضعفاً وهوانا.
ومن ترك ترك أول الوسائل إلى القرآن – وهي لغته – كان لغيرها من الوسائل أشد تركاً ، وكان عن غاياته ومعانيه أشد بعداً ، وقد كان من الثمار المرة لترك هذه اللغة الفصحى أن فاتت المسلمين كثير من المقاصد والمنافع الدينية ، فصار الحج الذي كان من مقاصده تعارف المسلمين وتلاحمهم وتفاهمهم كأنه قد خلا من هذه المنافع أوكاد : كان المسلمون في عهود السلف يلتقون في الحج فيتفاهمون بلغة القرآن ، ويتعاونون ، ويعرف بعضهم هموم بعض فيتناصحون ، ويلتقون في عهودنا هذه فيتحادثون بالإشارات لغة الصم والبكم فلا يتفاهمون .
وأشد من ذلك وأدهى أنه في كثير من الأحيان تكون واسطة التفاهم بينهم لغة أعدائهم ومستعمريهم عوضاً عن لغة نبيهم ولغة كتاب ربهم ، فياحسرةً على المسلمين أي ضياع يضيعون وفي أي واد يهيمون حين يهملون لغة القرآن .
اهتمام أعداء الإسلام بمحاربة اللغة العربية :
ومن أراد أن يعرف أهمية لغة القرآن فلينتبه إلى حرص أعداء الإسلام على حربها ، فمن أهم قواعد الحرب في كل البلدان وكل الأزمان أن العدو يهتم بتدمير سلاح عدوه بادئاً بالأهم فالمهم ، وإن عدونا حين أراد دخول بلادنا الإسلامية في شتى بقاع الأرض كان من أهم مقاصده تحطيم اللغة العربية ، فحين انكسرت تركية في الحرب العالمية الأولى كان أهم شروط الإستسلام الذي سموه استقلالاً إلغاء اللغة العربية من المدارس ، وإلغاء الكتابة بالحروف العربية ، وإلغاء الكلام بالعربية حتى في الأذان الذي هو شعار الإسلام في كل بلد إسلامي ، شرطوا ذلك م شروط أخرى كلها قطع للأمة عن القرآن قولاً وعملاً .
وحين دخل المستعمر الجزائر سيطر على التعليم وجعله بلغته ليقرا أبناؤنا ثقافته دون ثقافتنا ، وليتعلموا مبادئه دون مبادئنا ، وكان حكم من يكتب أي طلب رسمي بغير الفرنسية هو الإعدام ، وكادت اللغة العربية تنمحي من كل لسان لولا أن الله تعالى حفظها بواسطة بسيطة غفل المستعمرعنها هي مكاتب تعليم القرآن الكريم للصغار قبل أن يدخلوا مراحل التعليم الرسمية ، وكذلك حلقات تفسير القرآن الكريم – ولاسيما شرح مفرداته – في بيوت الله ، هي وسائل بسيطة في مظهرها عظيمة في أثرها وهي نفسها الوسائل التي نشرت لغة القرآن في العالم الإسلامي حين انتشار الإسلام أيام الخلفاء الراشدين والقادة الفاتحين والعلماء العاملين الذين فتحوا قلوب الأمم وورثوها القرآن لغة وتفسيراً وأحكاماً وأخلاقاً وأعمالاً ، وبتعليم لغة القرآن الكريم وصلوها مباشرة بالقرآن ، وإذا بتلك الأمم الحريصة على دينها تسابق العرب في خدمة القرآن وخدمة لغة القرآن حتى كان سيبويه وهو غير عربي اشهر علماء اللغة العربية وأكبرهم تأثيراً في علوم اللغة العربية .
وهذا الذي وقع في الجزائر وقع في كل بلد من بلاد الإسلام دخله المستعمر وإن تفاوت مقداره حسب طول المدة .
محاربة العربية بالدعايات ماهو هدفها؟؟
ولاننسى أن المستعمر بعدما خرج من بلاد الإسلام ظاهراً ترك فيها استعماراً باطناً هو أولئك الذين يدعون الناس إلى الإهتمام بثقافة المستعمر دون ثقافتنا ، ولغة المستعمر دون لغتنا لغة القرآن ، لايقول لك اترك لغة القرآن لكن يقول لك هذه لغة قديمة لافائدة لك منها اليوم ، تعلم اللغات الحية التي تخدمك أينما سرت من بلاد الدنيا ، وهذا أسلوب المخادعين الذين يدسون السم في الدسم فنحن لاننكر فائدة تعلم اللغات التي تتداولها أمم الأرض كثيراً كالإنجليزية ، فهذا له فوائده في نقل العلوم وفي تعرف مايجري في العالم ، وفي تعرف مايحوك أعداؤنا من الفتن لنا ، ولكن ليس على حساب لغتنا التي هي أول الوسائل لمعرفة كتاب ربنا الذي أخرجنا من الظلمات إلى النور ، وهي أول الوسائل إلى الوحدة العربية والإسلامية ، إنها ليست لغة ميتة ، هي أوسع اللغات وأقدر اللغات على استيعاب كل ثقافة ، وقد جعلها آباؤنا لغة العلم لكل راغب فيه من غير العرب ، ولكننا أهملناها وجهلناها حتى شككنا فيها المشككون وزعموا أنها لغة ميتة ، واللغات لاتموت إلا بإهمال أهلها ولاتحيا إلا بعناية أهلها ، وقد اعتنى بها آباؤنا فكانت في أيامهم أوسع اللغات انتشاراً ، وهؤلاء المشككون رغبونا عنها إلى لغات المستمرين لنكون تبعاً للمستعمرين في ثقافتنا وعلومنا وأفكارنا ، وثمرة ذلك أن نكون تبعاً لهم في سلوكنا وأعمالنا فيظل الإستعمار مسيطراً علينا إلى الأبد.
من أضرار جهلنا بلغتنا:
نحن نحتاج إلى العودة الجادة إلى العربية الفصحى فهي وسيلة وحدتنا وأي لهجة محلية نتخذها بديلاً عنها لاتؤدي هذا الدور وإن أدت شيئاً منه فهو أداء ضعيف ، وليسأل كل منا نفسه هل يفهم المعاني باللغات المحلية غير لغة بلده على الوجه التام ؟ فإذا عرف أن الجواب هو ( لا) فليعلم أن الآخرين أيضاً لايفهمون المعاني بلغته المحلية كما لايفهم هو المعاني بلغاتهم ، فإذا قال بعض الناس يمكن أن نتعلم قيل له : إنك تحتاج إلى وضع قواعد جديدة لكل لغة محلية ، ولن يمكن ذلك بسرعة كافية ، ولو علمناه لجعلنا لغتنا مجموع لغات ، وكل منا يدعو إلى لغته ، وهذا هو التفرق بدلاً من الوحدة والإخاء والتعاون .
أخي القارئ : إن إهمالنا لغة القرآن له نتائج مرة كثيرة زيادة على تفرق المسلمين وزيادة على تبعيتهم للمستعمرين وزيادة على حرمانهم من الصلة بالقرآن الكريم ، فالقضية ليست قضية حرمان من القرآن فقط ، إنها أسوأ من ذلك فهي تؤدي إلى فهمه فهماً خطأ يزيف معانيه ، فهناك أخطاء قائمة على الجهل بمعاني كلماته كما قال بعضهم حين سئل عن معنى الأنصاب في قوله تعالى : ( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ) فقال الأنصاب معناها : النصابون الذين يحتالون على الناس . أما معناها الصحيح فهو الحجارة التي كان أهل الجاهلية ينصبونها لذبح الذبائح عندها ولعبادتها .
وهناك أخطاء قائمة على الجهل بقواعد تركيب الجملة في اللغة العربية كما فسر بعض الجهلة قول الله تعالى : وإذ ابتلى ابراهيم ربه فقال : إن ابراهيم اختبر الله تعالى ، فعكس معنى الآية ، ومعناها هو أن الله تعالى اختبر إبراهيم عليه السلام ، واختبار الله للمخلوقين لالأجل أن الله يعلم حالهم فهو سبحانه يعلم السر وأخفى بل لأجل أن يظهر لهم مايعلمه من أحوالهم فيكافئهم على الخير بالخير وعلى الشر بالشر ، وقد اختبر سبحانه سبدنا إبراهيم عليه السلام ليظهر للناس فضائله فيتخذوه إماماً يقتدون به .
خطأ فهم القرآن يؤدي إلى الشك فيه :
واعلم أيها القارئ أن هذا الفهم الخاطئ في كثير من الآيات هو وسيلة أعدائنا إلى تشكيكنا في كتاب ربنا حتى ننسلخ منه تماماً انسلاخ العمل وانسلاخ الإيمان فنكون من الكافرين .
فاحرص أيها القارئ على تعلم لغة القرآن : تعلمْ معانيَ مفرداته ، وقواعد تركيب جمله أولاً ثم تعلم تفسيره ليكون تدبرك له أيسر وأكثر وليكون عملك مبنياً على علم محكم . وليكن أهم ماتقتني في بيتك كتاباً يشرح مفردات القرآن بإيجاز ثم كتاباً يفسر معانيه بإيجاز ثم توسع بعد ذلك ، وأوص بهذا كل أخ مسلم وكل صاحب بيت مسلم .
وأنت أيها القارئ المسلم غير العربي تعلم أولاً معاني كلمات الصلاة والأذان والسور القصار التي تحفظها ثم تعلم تفسيرها وتعلم الحروف العربية والكتابة العربية لتقرأ القرآن مباشرة ثم اسأل عن معاني كلماته واحدة واحدة تجد أنه يسهل عليك بعد ذلك تعلم لغة القرآن ثم تفهم القرآن وتدبر القرآن ، وأوص بهذا كل أخ مسلم غير عربي حتى نقترب كلنا من القرآن أكثر وتجتمع عليه قلوبنا أكثر .
ولاتقل يكفيني أن أقرأ ترجمة تفسير القرآن فهذا يجعلك كأن بينك وبينه حجاباً ويحرمك من التزود من كتب تفسيره الكثيرة التي تتصل بها حين تتعلم لغة القرآن كما يحرمك من الأحاديث النبوية الكثيرة التي تتصل بها حين تتعلم لغة القرآن ، ويحرمك من التواصل التام مع إخوتك العرب وإخوتك المسلمين .
ولاتنس أيها القارئ المسلم أبداً قول الله تعالى : إنا أنزلناه قرءاناً عربياً لعلكم تعقلون ولاتنس أبداً وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم : خيركم من تعلم القرآن وعلمه فإن أول مراحل تعلمه بعد قراءته أن تتعلم لغته حتى تفهمه .